العلوم المعرفية في زمن التقنيات والذكاء الاصطناعي

0

مع بزوغ فجر الألفية الثالثة، شهدت العلوم المعرفية توسعًا متسارعًا، مشرعةً باباً لأشكال جديدة من التواصل الاجتماعي. بذلك، ولدت منصات معرفية جديدة تمتاز بسهولة الاستخدام والتفاعل معها. هذه البرامج، التي كانت في السابق محصورة في الاستخدام العسكري والبرامج الفضائية، أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية مع دخولنا الألفية الجديدة. بمعنى آخر، أضحت العلوم التكنولوجية المعاصرة أكبر حضوراً في المشهد العام، وأصبحت، من الناحية العلمية والمعلوماتية، بمثابة مرجعية معرفية تحل محل الكتب الورقية في العديد من الأحيان.

هذا التطور المتسارع تقبله الجميع وتواصلوا مع فضاءاته الافتراضية، دون النظر إلى الجوانب السلبية المحتملة وتأثيرها على المجتمع والعلوم التقليدية. البرامج التكنولوجية المتقدمة والمتنامية تغيّر بشكل جذري مسارات التعليم والبنية التحتية، والبنية الفوقية بشكل عام، كما تطال المجالات الصحية والهندسية وحتى العلوم
الإنسانية.

هذه التغييرات تؤثر بشكل مباشر على نسيج المجتمع وطبيعة حركته. إذ نشهد عملية انتقال ضخمة من التواصل المباشر إلى التواصل غير المباشر بسبب النجاح الباهر والانتشار الواسع لبرامج التكنولوجيا المعرفية في العالم الافتراضي. ومن هنا تبرز أهمية تقدير “أساليب العمل وحواضنه العامة وظروف تكوينه”. هذه العوامل الجديدة تتطلب منا إعادة تقييم الأثر الكبير والتغيير الذي حل بثقافتنا الاجتماعية بكافة جوانبها.

ها نحن في حقبة الخلط بين التواصل الوجاهي وشبكات السحب الافتراضية في مجتمعاتنا، خاصة مع تداخل معادلة الحرية المطلقة والروابط القيمية في مواجهة صامتة. تصطدم مناخات الحرية التي أصبحت بلا ضوابط، مع المعايير التقليدية التي أرستها العناوين الحضارية الأولى للنشأة الإنسانية.

توسع معادلة التطور في ظل العولمة السائدة لتشكل فضاءات أوسع من الأركان المستقرة السابقة، مع تطور العلوم المعرفية بشكل متسارع. وصلت هذه العلوم وبرامجها إلى مستوى يجعلها نقطة جذب للأعداد الشعبية. بزيادة نمو الصناعات المعرفية، تزداد أيضاً نفوذها، ما يعزز الصراع بين مناخات الحرية وروابط الحضارة الإنسانية التقليدية. وسيزداد هذا الصراع مع تنامي مسارات الذكاء الاصطناعي وتطور العلوم المعرفية على حساب الأدب المعرفي، مما يتوقع أن يشكل بوابة جديدة للتنافس الثقافي المقبل.

فقد جعل العصر الحالي يحمل علامة تميز فريدة، مختلفة عن العصور السابقة التي كانت النزاعات فيها تتمحور حول زيادة الثروات والسيطرة على الأراضي. ثم جاءت الثورة الصناعية لتضع علامة فارقة في التاريخ القريب، لكننا الآن نشهد طورًا جديدًا يقوم على العلوم والصناعة المعرفية.

إذ أصبحت السيطرة على الحركة البشرية بكل جوانبها وأبعاد مضامينها الذهنية والمعرفية هي الهدف المنشود، فهي تحكم بالعناصر الصناعية والطبيعية وحتى النظم البشرية التي يتم استقطابها بطرق نوعية داخل الصناعة المعرفية.

تتجسد رؤية هذا العصر في مضمونه المعرفي، المعقد في علومه الخاصة والسلس في استقطابه الأفقي. ورسالته تقوم على عناوين ثقافية ليبرالية تجمع بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الذهني في محتوى واحد، بالإضافة إلى الجمع بين خصائص المجتمع الوجاهية والسحب الافتراضية.

لكن العصر الجديد، على الرغم من الحداثة التي يقدمها، يفتقر إلى عناوين الأصالة الحضارية. ومن هنا تشكل حالة فكرية جديدة تعتمد على العلوم المعرفية في جوهرها، مما يجعلها تختلف بشكل جذري عن النماذج السابقة التي كانت تعتمد على أيديولوجيات العقائد والأدبيات المنبثقة من القيم التي جاءت مع الحضارة الإنسانية بطابعها الأيديولوجي.

وهذا النموذج الجديد، الذي يرتبط بحرية تتصادم مباشرة مع العقائد السماوية، يشكل فصلا تاريخيا جديدا للعصر المعرفي القادم الذي من المتوقع أن تتغير معه الضوابط والموازين وحتى الثوابت الاجتماعية بمرجعياتها الناظمة وأصولها وأعرافها التي كانت سائدة خلال الحقبة المنصرمة، والتي كانت تشكل الأرضية الثقافية للإنسانية في العصور السابقة.

وهذا يشكل بالمحصلة التحديات الرئيسية التي ستكون مسرحا للصراع بين العلوم المعرفية والأدب المعرفي الذي يقوم عليه العنوان الجديد لكتابي

المهندس حازم قشوع

Share.

About Author

Comments are closed.

Website Designed by AMC - Copyright 2017 Al Badia Magazine